مؤسسات عملاقة: ميديوبانكا الإيطالي.. بنك تقليدي أعاد تعريف دوره ليصبح قوة مالية أوروبية

تعود جذور ميديوبانكا – بنك Mediobanca Banca di Credito Finanziario إلى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، حين تأسس عام 1946 في ميلانو بمبادرة من رافاييلي ماتّيولي وإنريكو كوتشّا، اللذين سعيا إلى إنشاء مؤسسة مالية مكرَّسة لدعم إعادة إعمار الصناعة الإيطالية وتعزيز النمو الاقتصادي في تلك الحقبة الحرجة.

جاء تأسيس البنك ثمرة تحالف بين Banca Commerciale Italiana وCredito Italiano وBanco di Roma، ليشكّل ذراعًا متخصصًا في تمويل القطاع الصناعي، ويسد الفجوة بين البنوك التجارية التقليدية واحتياجات الشركات الإنتاجية الكبرى.

منذ نشأته، لعب ميديوبانكا دورًا محوريًا في تمويل القطاعات الحيوية الإيطالية ودعم شركات عملاقة مثل فيات (Fiat) وإيني (ENI)، كما أسهم في ربط النظام المالي الإيطالي بالأسواق الأوروبية.

خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، عزّز البنك مكانته عبر التوسع في الأنشطة الاستثمارية وإدارة السندات، ليصبح مركز الثقل في تمويل الشركات الإيطالية.

وفي الثمانينيات، بدأ توسيع نطاق خدماته نحو المصرفية الاستثمارية والاستشارات المالية وإدارة الثروات، ليترسّخ اسمه كأحد أبرز البنوك الأوروبية المستقلة في هذا المجال.

في عام 2003، تحوّل ميديوبانكا إلى شركة قابضة مدرجة في بورصة ميلانو، ما منحه مرونة أكبر لإعادة هيكلة أعماله وتعزيز حضوره خارج إيطاليا، وتلا ذلك مرحلة من التوسع الاستراتيجي شملت الاستحواذ على حصص في مؤسسات مالية أوروبية ودخول قطاع الخدمات المصرفية للأفراد.

وفي 2016، أطلق البنك منصتي Compass للتمويل الاستهلاكي وCheBanca للخدمات الرقمية، ليؤكد انتقاله من بنك تمويل صناعي تقليدي إلى مجموعة مالية متكاملة تجمع بين الابتكار والخدمات المصرفية المتنوعة.

على مدار العقد الأخير، تبنّى ميديوبانكا استراتيجية تركّز على النمو المستدام وتنويع مصادر الدخل مع الحفاظ على هويته كبنك استثماري قوي ذي جذور عميقة في السوق الإيطالي.

ودوليًا، عزّز البنك وجوده في فرنسا وألمانيا وإسبانيا والمملكة المتحدة عبر فروع ومكاتب تمثيلية تركز على تقديم الخدمات المصرفية والاستثمارية للأسواق الأوروبية المتقدمة. كما أصبح لاعبًا رئيسيًا في مجال الاستشارات المالية لصفقات الاندماج والاستحواذ (M&A) داخل أوروبا، وغالبًا ما يشارك إلى جانب مؤسسات عالمية كبرى مثل Goldman Sachs وRothschild في إبرام الصفقات الإقليمية.

في مجال الابتكار الرقمي، يواصل ميديوبانكا ريادته عبر ذراعه الرقمية CheBanca، التي تُعد من أوائل البنوك الإيطالية التي تبنّت نموذج الخدمات المصرفية المفتوحة (Open Banking).

كما يعمل البنك على دمج الذكاء الاصطناعي في إدارة علاقات العملاء وتحليل البيانات لتحسين تجربة المستخدم وتعزيز كفاءة العمليات التشغيلية، مع التركيز على التوسع في المنصات الرقمية لتقديم التمويل الشخصي وخدمات الاستثمار الإلكتروني.

أما في مجال الاستدامة والمسؤولية المجتمعية، فقد وضع البنك سياسة واضحة للتمويل المستدام، موجّهًا حصة متزايدة من محفظته إلى المشروعات الخضراء والطاقة النظيفة، وأطلق برامج لدعم التعليم وريادة الأعمال، كما دمج معايير ESG (البيئية والاجتماعية والحوكمة) في قرارات التمويل والاستثمار. وفي عام 2024، أصدر البنك سندات خضراء بقيمة 500 مليون يورو لدعم التحول نحو اقتصاد منخفض الانبعاثات في أوروبا.

ورغم نجاحاته، يواجه ميديوبانكا تحديات بارزة، أبرزها المنافسة المتصاعدة من البنوك الأوروبية الكبرى والمؤسسات الرقمية الجديدة، فضلًا عن تقلبات الاقتصاد الإيطالي. ومع ذلك، يواصل البنك الحفاظ على موقعه كمؤسسة مالية رائدة ذات تأثير محلي وإقليمي، مدعومًا باستراتيجيات نمو حذرة ومبتكرة.

يمثل ميديوبانكا نموذجًا حيًا لقدرة البنوك التقليدية على إعادة تعريف أدوارها في عالم سريع التغيّر؛ فمن مؤسسة تأسست لتمويل الصناعة الإيطالية بعد الحرب العالمية الثانية إلى مجموعة مالية متكاملة ذات حضور أوروبي قوي ونهج يوازن بين الربحية والاستدامة، يظل ميديوبانكا أحد أعمدة النظام المصرفي الإيطالي والأوروبي.