أخضر: «المعادن الخضراء» بين الاستهلاك المفرط والحد من الانبعاثات
First Bank
يشهد العالم تحولًا جذريًا نحو الطاقة النظيفة، وتحمل المعادن الخضراء دورًا محوريًا في هذا التحول باعتبارها العمود الفقري للتقنيات الحديثة منخفضة الانبعاثات، فالليثيوم والنيكل والكوبالت والنحاس لم تعد مجرد مواد أولية، بل أصبحت مكونات استراتيجية تدعم انتشار السيارات الكهربائية، وتغذية شبكات الطاقة الشمسية، وتشغيل توربينات الرياح.
ومع تزايد أهميتها، تتسع دائرة التساؤلات حول الثمن الحقيقي لهذه المعادن: هل ما تقدمه من حلول مناخية يأتي دون تكلفة بيئية أو اجتماعية؟ أم أن العالم يقف أمام معادلة معقدة تُنقذ المناخ من جهة، وتضغط على موارد الأرض من جهة أخرى؟
وبالتزامن مع هذا الدور المحوري للمعادن الخضراء في بناء اقتصاد منخفض الكربون، يصبح من الضروري فهم حقيقتها التقنية بعيدًا عن الصورة المثالية المرتبطة بها، فهذه المعادن مثل "الليثيوم والنحاس والنيكل والكوبالت" ليست مجرد عناصر طبيعية تُستخرج وتدخل في تصنيع البطاريات، بل هي مكونات تعتمد عليها شبكات الطاقة المتجددة والأنظمة الكهربائية في العالم كله.
ومع توسع استخدامها بهذا الشكل، تتصاعد التساؤلات حول مدى «خضرة» هذه المعادن فعليًا، خاصةً أن الاعتماد عليها لا ينفصل عن تحديات بيئية واجتماعية معقدة، وتتضح الإجابة بمجرد النظر إلى دورة حياة هذه المعادن، بدءًا من استخراجها مرورًا بعمليات التصنيع وحتى التخلص من النفايات الإلكترونية، وهي مراحل تُظهر أن التحول الأخضر ليس بلا ثمن.
فعند النظر لعمليات الاستخراج، يتضح أن إنتاج طن واحد من الليثيوم يتطلب استهلاك مئات آلاف الجالونات من المياه المالحة، ورغم عدم صلاحية هذه المياه للاستخدام الآدمي، إلا أن استخراجها يؤدي إلى هبوط مستويات المياه العذبة واختلاطها بالمياه الجوفية المالحة، وهو ما يتسبب في تدهور جودة المياه العذبة بمرور الوقت.
ولا تختلف الصورة كثيرًا في حالة النحاس؛ إذ تعتمد عمليات استخراجه على استهلاك ضخم للمياه والطاقة. وقد أنفقت تشيلي وحدها أكثر من 2.3 مليار دولار على مشروعات المياه لخدمة هذا القطاع، الذي يُعد الأكثر استهلاكًا للمياه في البلاد نظرًا لإنتاجها حوالي 40% من إنتاج أمريكا اللاتينية من النحاس.
ولا يقتصر الضرر على الجانب البيئي فقط، فالكلفة الإنسانية للتعدين تُعد من أبرز التحديات المرتبطة بالمعادن الخضراء، فعلى سبيل المثال لا الحصر: مناجم الكوبالت في الكونغو تشهد عمل أكثر من 40 ألف طفل في ظروف خطرة، بينما يتعرض عمال الليثيوم في تشيلي لمواد كيميائية خطيرة دون حماية كافية، مما يبرز جانبًا خفيًا من «ثمن» التحول الأخضر.
وعند النظر لخريطة الإنتاج العالمي، يتضح أن أستراليا تملك ما يقارب 48% من إنتاج الليثيوم، والكونغو أكثر من 70% من إنتاج الكوبالت، وتتصدر إندونيسيا في إنتاج النيكل حيث تساهم بحوالي 50% من الناتج العالمي، فيما تنتج تشيلي وبيرو معًا نحو 40% من النحاس العالمي، وهذا التركز الشديد للإنتاج يجعل المعادن الخضراء محورًا للتنافس الجيوسياسي بين القوى الكبرى، خاصةً مع سيطرة الصين على سلاسل التوريد العالمية والتكرير، وسعي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لتقليل اعتمادهم عليها.
وفي المقابل، تأتي الصين والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي واليابان وكوريا الجنوبية على رأس الدول الأكثر استهلاكًا لهذه المعادن، مما يبرز فجوة واضحة في العدالة البيئية، فالدول المنتجة تتحمل التلوث ونقص المياه والجفاف، بينما تستفيد الدول الصناعية دون تحمل التكلفة البيئية، ويؤدي هذا الوضع إلى ما يُعرف بـ«تصدير الانبعاثات»، حيث تنتقل الأضرار إلى الدول الفقيرة بينما تستفيد الدول الغنية من منتجات صديقة للبيئة دون تحمل التكاليف الحقيقية للمخاطر.
وتزداد خطورة الوضع مع توقعات تضاعف الطلب العالمي على هذه المعادن خلال العقود القادمة؛ إذ يُتوقع أن يزداد الطلب على الليثيوم بمقدار 40 ضعفًا، وعلى الكوبالت والجرافيت 20 ضعفًا بحلول عام 2040 مقارنةً بعام 2020، ومع تضخم الطلب، يسود القلق من التوسع غير المدروس في عمليات التعدين، بما يحمله ذلك من تهديد للأنظمة البيئية المحلية وللمجتمعات التي تعتمد على موارد المياه والزراعة.
ورغم هذه الآثار السلبية، تظهر حلول قد تخفف من آثار هذا الوضع، وعلى رأسها إعادة تدوير النفايات الإلكترونية والبطاريات؛ حيث تحتوي الأجهزة القديمة على كميات كبيرة من المعادن يمكن استعادتها، وتشير وكالة الطاقة الدولية إلى أن إعادة تدوير البطاريات وحدها يمكن أن تغطي ما يصل إلى 12% من الطلب العالمي على الليثيوم و35% من الطلب على الكوبالت بحلول 2040، وهو ما يعزز مفهوم الاقتصاد الدائري.
كما تتجه بعض الدول والشركات إلى تبني معايير «التعدين المسؤول» التي تشمل إدارة أفضل للمياه، والحد من الانبعاثات، وتطبيق إجراءات صارمة لحماية العمال، وفي الوقت نفسه، تعمل الشركات البحثية على تطوير تقنيات بديلة قد تقلل الاعتماد على المعادن النادرة، مثل بطاريات الصوديوم-أيون والبطاريات الصلبة، وهو ما قد يغيّر مستقبل صناعة الطاقة خلال العقود القادمة.






