يعتبر البعض الائتمانات الكربونية فرصة اقتصادية جذابة وفي وقت تتسابق فيه الشركات عالميا لرفع شعارات الحياد

FirstBank فرست بنك موقع فرست بنك فيرست بنك first bank



أخضر: ائتمانات الكربون.. حين تشتري الشركات «صكوك الغفران» لتلويث الكوكب

FirstBank

يعتبر البعض الائتمانات الكربونية فرصة اقتصادية جذابة، وفي وقتٍ تتسابق فيه الشركات عالميًا لرفع شعارات «الحياد الكربوني» و«الاستدامة»، حيث يُعرف "ائتمان الكربون" بأنه تصريح تداول يمثل الحق في إطلاق طن واحد من ثاني أكسيد الكربون.

وبدلاً من إجبار شركة طيران أو مصنع أسمنت على تغيير تكنولوجيته بتكلفة باهظة فوراً، يُسمح له بشراء "كوبونات" من مشروع قام بزراعة غابات أو حماية الطبيعة في قارة أخرى؛ مما يمنح الشركات القدرة على إنتاج نفس القدر من الكربون المنبعث من أنشطتها دون الحاجة إلى تغيير جذري في أنظمتها التشغيلية.

ويترتب على ذلك أن يصبح صافي انبعاثات الشركة في النهاية "صفراً"، ولكن هذا الأمر يظل "حيادًا كربونيًا شكليًا" فقط؛ إذ لا يتجاوز كونه صفرًا محاسبيًا على الورق، حيث حوّل هذا النموذج الكربون من ملوث بيئي إلى سلعة قابلة للتداول في الأسواق العالمية، مما أغرى الشركات الكبرى بالدخول بقوة في هذا السوق لتبدو بمظهر المحافظ على البيئة أمام المستثمرين والمجتمع الدولي.

ويتركز جوهر الإشكالية داخل سوق الائتمانات الطوعي، حيث تغيب القواعد الإلزامية الصارمة مقارنة بالأسواق التنظيمية الخاضعة لرقابة حكومية، ما فتح الباب أمام تضارب التقديرات وضعف المحاسبة، وحول مفهوم الخفض الفعلي للانبعاثات إلى مجرد معادلات نظرية.

ولم يكن هذا الأمر وليد اللحظة أو حديث الظهور، بل يعيد للأذهان ما عُرف في العصور الوسطى بـ "صكوك الغفران"، وهي صكوك كانت تصدرها الكنيسة ويشتريها المذنبون للتكفير عن ذنوبهم، وبالمنطق ذاته، تأتي ائتمانات الكربون اليوم كامتداد لهذه الفكرة؛ حيث تشتري الشركات هذه الائتمانات لتمنح نفسها "الصلاحية" للاستمرار في إطلاق الغازات الدفيئة.

وبينما يروج البعض لهذه الآلية كحل عبقري لإنقاذ البيئة دون المساس بأساليب الإنتاج، تكشف الوقائع المتتالية عن فجوة مرعبة بين ما يُكتب في التقارير المالية وما يحدث فعلياً في الغلاف الجوي، مما يطرح سؤالاً جوهرياً: هل ننقذ الكوكب حقاً، أم أننا بصدد أكبر عملية "غسيل أخضر" في تاريخ الاقتصاد الحديث؟

غير أن هذا التصور المثالي بدأ في التآكل إثر تحقيق استقصائي مشترك بين صحيفتي "The Guardian" البريطانية و"Die Zeit" الألمانية، والذي استند إلى دراسة علمية من جامعة كامبريدج. فقد كشف التحقيق عن فضيحة هزت أركان هذا السوق؛ إذ تبين أن أكثر من 90% من ائتمانات الكربون الناتجة عن حماية الغابات، والتي اعتمدتها شركة "Verra" -التي تعد من أكبر جهات الاعتماد في العالم- هي في الحقيقة "ائتمانات وهمية". هذه المشاريع التي دُفعت فيها ملايين الدولارات لم تساهم في خفض حرارة الأرض، بل كانت تعتمد على تضخيم افتراضات بيئية غير قابلة للتحقق على أرض الواقع.

وعلى الجانب الآخر، لم تقف مؤسسة "Verra" صامتة أمام هذه الاتهامات؛ بل سارعت بالرد مشككة في المنهجية التي اتبعتها دراسة كامبريدج والتحقيق الصحفي، معتبرة أن النماذج المستخدمة لتقييم الحفاظ على الغابات "غير دقيقة" ولا تعكس الواقع الميداني المعقد، ومؤكدة أن معاييرها تظل الأكثر صرامة في السوق، إلا أن هذا الدفاع لم ينجح في احتواء الأزمة، بل زاد من حدة الانقسام حول مدى موثوقية هذه هيئات الاعتماد البيئي عالميًا.

وامتد هذا الجدل ليصل إلى قلب المؤسسات الرقابية التي تضع "المعايير الذهبية" للاستدامة، حيث شهدت "مبادرة الأهداف القائمة على العلم" (SBTi) اعتراضاً داخلياً واسعاً في أبريل 2024. ففي خطوة وُصفت بأنها "انحناء لضغوط اللوبيات"، حاول مجلس أمناء المنظمة السماح للشركات باستخدام ائتمانات الكربون للتعويض عن انبعاثاتها، وهو ما فجر غضباً غير مسبوق من موظفي المنظمة وعلمائها الذين اعتبروا القرار خيانة للمبادئ البيئية؛ لأنه يمنح الشركات مخرجاً سهلاً بدلاً من الضغط عليها لتقليل تلوثها الحقيقي، ولم تجد المنظمة في النهاية مفرًا من التراجع، مُصدرةً بيانًا يؤكد التزامها بالمعايير العلمية تحت وطأة هذا الانقسام الحاد.

إن هذا التذبذب في المعايير وفضائح الائتمانات الوهمية يضعان المستثمرين والبنوك أمام مخاطر كبرى؛ فالميزانيات التي تظهر اليوم "خضراء" بناءً على حياد كربوني محاسبي قد تتحول غداً إلى أعباء قانونية وتنظيمية تُعيد تسعير المخاطر وتضرب السمعة المؤسسية في مقتل. وفي الأسواق الناشئة على وجه الخصوص، قد تتحول هذه الائتمانات من أداة جذب للاستثمار الأجنبي إلى قنبلة تنظيمية مؤجلة حال تغيّر المعايير الدولية أو تشديد الرقابة فجأة.

كما أن التحول الحقيقي نحو الاقتصاد الأخضر لا يمكن أن يتم عبر مقايضة التلوث بالمال، أو الاختباء خلف شهادات ورقية لا أثر لها على أرض الواقع.

فالكوكب لا يحتاج إلى شراء «حق» إنتاج الكربون، بل يحتاج إلى خفض حقيقي في مداخن المصانع وعوادم الطائرات، إن "صكوك الغفران" لم تنقذ أحداً في الماضي، وكوبونات الكربون لن تنقذ مناخنا اليوم ما لم تُترجم الاستدامة من شعارات وتقارير إلى تغييرات جذرية تقلل التلوث من المنبع، لا من دفاتر المحاسبة.