FirstBank فرست بنك موقع فرست بنك فيرست بنك first bank



سد النهضة والغرق في السودان: حين يتحول الحلم التنموي إلى فاتورة إنسانية مدوّية

FirstBank

تحوّل ما رأت فيه إثيوبيا رمزًا للنهضة والطاقة المتجددة إلى اختبار قاسي لدول الجوار، فانتقل السودان من متلقي للأخبار إلى ضحية مباشرة لأزمة مائية وإنسانية؛ ففي الأسابيع الأخيرة أصدرت الخرطوم تحذيرات متكررة من ارتفاع منسوب المياه على ضفتي النيل الأزرق والأبيض، وانتقلت الفيضانات إلى العديد من الولايات من مناطق الجزيرة إلى النيل والأجزاء الجنوبية للعاصمة، بينما كانت المشاهد الأكثر فداحة في مناطق نائية تعرضت لانهيارات أرضية وغرق قرى بأكملها.

ومع تفاقم الكارثة، بدأت تنكشف الأرقام الحقيقية لحجم المأساة، إذ تحدث مكتب الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة الدولية عن مئات القتلى وآلاف المشردين، بينما أبلغت السلطات المحلية عن مئات الجثث التي تم انتشالها دفعة واحدة في بعض المواقع، ورصدت تقارير صحفية موثوقة أن الانهيار في قرية ترسين بجبل مرة قضى على مئات وربما على أكثر من ألف شخص، بينما تم انتشال 375 جثة دفعة واحدة في عمليات الإنقاذ الأوّلية.

ولم يكن سد النهضة الإثيوبي في معزل عن هذه المأساة، فبعد اكتمال أعمال السد وبدء ملء الخزان وتشغيله، أعلنت إثيوبيا أن السد أسهم في الحد من تدفق المياه الجارف وتخفيف حدة الفيضانات، إلا أن السلطات السودانية ربطت ارتفاع منسوب النيل الأزرق وتدفق المياه المفاجئ جزئيًا بإجراءات تصريف مفاجئة أو بإدارة غير منسقة لمخزون المياه خلال موسم مطري استثنائي.

وفي ظل غياب الشفافية الكاملة بشأن آليات تشغيل السد، صدرت تصريحات متعارضة من الجانبين، بين تأكيد إثيوبي على "دور وقائي" وتحذير سوداني من "آثار تصريف غير منظم"، ولكن ما يجمع التصريحين هو الإقرار بأن حدة الموسم المطري فاقت التوقعات، وأن أي نقص في التنسيق بين دول الحوض يضاعف من حجم الخسائر لدى الدولة الأضعف مناخيًا وبنيانيًا.

وتشير تقديرات فنية إلى أن سدود السودان الحالية، مثل سد الروصيرص وسنار، لم تُصمم لتحمل تغيرات مفاجئة في التدفقات اليومية القادمة من المنبع، ما يضاعف خطر الانهيارات أو تجاوز السدود في حال غياب التنسيق الفوري، خصوصًا في ظل ضعف أنظمة الرصد اللحظي وغياب بروتوكولات تشغيل مشتركة.

تغير المناخ يزيد الهشاشة.. والسودان يدفع الثمن

ويلعب التغير المناخي دورًا مضاعفًا في الأزمة، حيث أظهرت السجلات المناخية هطولات مطرية أكثر تطرفًا وتحولات في مواسم الأمطار بشرق أفريقيا، ما يعني أن الخزانات والسدود تتعرض اليوم لقيود تشغيلية لم تصمم لمواجهتها، وأوضح الخبراء أن الانتقال المفاجئ من موسم جاف إلى أمطار غزيرة، مع تشبع التربة وتزايد التعرية، يجعل خطر الانهيارات الأرضية والفيضانات أسرع وأقسى، خصوصًا في المناطق التي تفتقر إلى بنى إنقاذ وإنذار مبكر مناسبة.

ونتيجةً لذلك، فقدت آلاف الأسر مساكنها ومصادر دخلها الزراعي، وامتدّت الآثار إلى الأمن الغذائي المحلي وشبكات النقل والاتصالات في ولايات مثل الجزيرة والخرطوم والنيل، حيث أُغلقت طرق رئيسية، وتوقفت الأسواق، وزادت الحاجة لطوارئ صحية بسبب انتشار الأمراض المنقولة بالمياه، كما نبهت المنظمات الإنسانية إلى صعوبة الوصول إلى بعض المناطق المتضررة بسبب النزاعات والوعورة، ما يعقّد عمليات الإغاثة ويضاعف معاناة الناجين

ويجد السودان نفسه اليوم، بصفته دولة مصب ضعيفة المناعة المناخية، يدفع اليوم ثمن أزمات لم يكن طرفًا في صناعتها؛ فهو لم يشارك في الانبعاثات التاريخية ولا في خطط التنمية الصناعية التي قادت لتغير المناخ، ومع ذلك يتحمل كلفة باهظة لقرارات إقليمية حول إدارة مياه النهر.

ومن هنا، تتحول القضية إلى مسألة عدالة مائية ومسؤولية مناخية مشتركة، تستوجب تعاونًا إقليميًا ودوليًا لإدارة السدود العابرة للحدود وتعويض المتضررين بشكل منصف وسريع، بما يضمن استعادة سلاسل الغذاء المحلية واستقرار المجتمعات السفلية.

ولتجنب تكرار المأساة، يجب تقسيم الإجراءات التي يلزم اتخاذها علي ثلاث مراحل مترابطة:

• على المدى القصير، يجب توفير إمدادات طوارئ غذائية وطبية عاجلة ومأوى للمتضررين، وضمان وصول المساعدات للمناطق التي تعيقها النزاعات، مع تنسيق فوري وشفاف في تصريف المياه بين الدول.

• وعلى المدى المتوسط، يجب العمل على إرساء آليات تشغيل مشتركة للسدود العابرة للحدود تتمثل في اتفاقات تشغيلية واضحة، وجداول تصريف تستند إلى توقعات مناخية محدثة، وربط أنظمة إنذار مبكر بالمجتمعات المحلية، وليس بالمراكز الحكومية فقط.

• وعلى المدى الطويل، هناك حاجة إلى إطلاق برامج تمويلية دولية مقررة للتكيف مع التغير المناخي ،تستهدف بناء منشآت مقاومة للفيضانات، وترميم حواجز التعرية، واستعادة المساحات الرطبة التي تعمل كمخازن طبيعية لتقليل صدامات المياه.

التنمية مسؤولية لا عبء

وربما تكون الرسالة الأهم أن المشروعات التنموية الكبرى لا يمكن أن تنجح بمعزل عن مسؤولياتها الإقليمية فسد النهضة يمثل نموذجًا لمعادلة صعبة؛ تنمية واعدة لإثيوبيا، لكنها مشروطة بضمانات بيئية واجتماعية لجيرانها الذين يشتركون في نفس النهر، وإذا لم يتبنا المجتمع الدولي آليات حقيقية لتقاسم المنافع وتقليل الأضرار، فسنشهد تكرارًا لكوارث مشابهة يدفع ثمنها الأضعف والأقرب إلى الخطر.

وفي النهاية، يبقى السؤال الذي لا يحتمل إجابة سهلة: في عالم يتّجه نحو ظواهر مناخية أكثر تطرفًا، ومشروعات عملاقة تقوم على موارد مشتركة، هل سنبني آليات تضامن تجعل التنمية مسؤولية مشتركة لا عبئًا يقع على من هم أقل قدرة؟ أم أن دولًا بأكملها ستواصل دفع ثمن نهضة لم تشارك في صناعتها؟