أخضر: السعودية.. من ريادة النفط إلى ريادة الطاقة المتجددة
First Bank

في ظل التحولات البيئية العالمية، برزت المملكة العربية السعودية كمؤثر رئيسي في سباق الطاقة النظيفة، حيث لم تعد تعتمد فقط على مكانتها كدولة نفطية، بل أصبحت نموذجًا دوليًا في التحول إلى الطاقة المتجددة والاستدامة البيئية.
وقد جاء هذا التحول ضمن رؤية السعودية 2030، التي وضعت ضمن أولوياتها تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري وتنويع مصادر الطاقة، ويعكس هذا التوجه طموحات المملكة في أن تصبح مركزًا عالميًا لإنتاج وتصدير الطاقة النظيفة، من خلال مشاريع استراتيجية واسعة تشمل الطاقة الشمسية، وطاقة الرياح، والهيدروجين الأخضر، وتخزين الطاقة.
أطلقت السعودية مبادرة "السعودية الخضراء" عام 2021، التي تهدف إلى زراعة 10 مليارات شجرة داخل المملكة وخفض الانبعاثات الكربونية بنحو 278 مليون طن سنويًا بحلول 2030.
كما تسعى المملكة لتخصيص 30% من مساحتها كمحميات طبيعية، ورفع نسبة الطاقة المتجددة إلى 50% من مزيج الطاقة الوطني، إلى جانب قيادتها الإقليمية من خلال "مبادرة الشرق الأوسط الأخضر" التي تهدف إلى زراعة 50 مليار شجرة وتفعيل الاقتصاد الدائري للكربون.
وقد انعكس هذا الالتزام بوضوح على الأرض، حيث بلغت القدرة التشغيلية للطاقة المتجددة في السعودية حتى نهاية 2024 نحو 6,551 ميجاوات، تشمل 6,151 ميجاوات من الطاقة الشمسية و400 ميجاوات من طاقة الرياح، موزعة على عشرة مشاريع كبرى.
من أبرز المشاريع التي تم تشغيلها مشروع "سدير للطاقة الشمسية" بقدرة 1.5 غيغا واط، والذي ينتج طاقة تكفي لتغذية نحو 185,000 منزل سنويًا، ويساهم في تقليل 2.9 مليون طن من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، وتُعد تكلفة إنتاج الكهرباء من بعض هذه المشاريع من الأقل عالميًا، حيث وصلت إلى 3.9 هللة للكيلوواط/ساعة، ما يبرهن على كفاءة المملكة في جذب الاستثمارات وتطوير تقنيات مستدامة بتكلفة تنافسية.
وفي ميدان تخزين الطاقة، أطلقت السعودية مشروعًا هو الأضخم عالميًا من حيث السعة التشغيلية، وهو مشروع بيشة لتخزين الطاقة بالبطاريات بقدرة 500 ميغاواط/2000 ميغاواط - ساعة، باستخدام 122 وحدة بطاريات من شركة BYD الصينية.
ويُمكن لهذا النظام تخزين وتشغيل الكهرباء لأكثر من 90 ألف منزل عند الذروة، ما يمثل تقدمًا هائلًا في تأمين الطاقة وتعزيز موثوقية الشبكة الوطنية، ومع هذه الخطوة، دخلت المملكة ضمن أكبر 10 أسواق لتخزين الطاقة عالميًا، مع خطط للوصول إلى 48 غيغاواط/ساعة من سعة التخزين بحلول عام 2030، وقد بدأت بالفعل مشاريع بقدرات تشغيلية تصل إلى 8 غيغاواط في 2025 و22 غيغاواط بحلول 2026.
أما في قطاع الهيدروجين الأخضر، فقد دشّنت المملكة مشاريع كبرى في منطقة نيوم، حيث يُتوقع بدء الإنتاج التجاري ما بين 2025 و2026، بطاقة إنتاجية تصل إلى 600 طن من الهيدروجين الأخضر يوميًا، ما يعادل 1.2 مليون طن من الأمونيا الخضراء سنويًا، اعتمادًا على طاقة نظيفة تبلغ 4 غيغاواط من الشمس والرياح.
وقد بدأت السعودية توقيع اتفاقيات تصدير للهيدروجين النظيف مع عدة دول أوروبية مثل إيطاليا وألمانيا وفرنسا، وهو ما يعزز مكانتها كمصدر رئيسي للطاقة النظيفة للأسواق العالمية خلال العقود القادمة.
وفي يوليو 2025، عززت المملكة استثماراتها من خلال تمويل جديد بقيمة 8.3 مليار دولار، تم تخصيصه لمشاريع طاقة شمسية وريحية جديدة بقدرة إجمالية تبلغ 15 غيغاواط، موزعة على أربع مناطق حتى 2028.
ويُعد هذا التحول النوعي دليلًا على التزام السعودية الجاد ببناء اقتصاد أخضر متنوع، يجمع بين الاستدامة البيئية، والتنوع الاقتصادي، والتنافسية العالمية.
ومع قدرتها على إنتاج طاقة نظيفة بتكلفة منخفضة، وتوفير بنية تحتية متطورة للتخزين والتصدير، فإن المملكة تؤسس لنموذج إقليمي ودولي يحتذى به في التحول البيئي والابتكار في الطاقة.
كل ما سبق يعكس تحولًا استراتيجيًا في توجهات المملكة، من دولة ريعية تعتمد على النفط، إلى دولة استباقية تستثمر في المستقبل الأخضر.
ما يُميز التجربة السعودية هو شمولها وارتباطها برؤية وطنية واضحة تتجاوز الأهداف البيئية إلى أهداف اقتصادية وتنموية، فبجانب حماية المناخ، تفتح هذه المشروعات أبوابًا لفرص استثمارية ضخمة، وتخلق آلاف الوظائف في قطاعات الطاقة والتكنولوجيا والبحث العلمي.
كما أنها تعزز من قوة المملكة التفاوضية عالميًا في ملفي الطاقة والمناخ، وتضعها في موقع الريادة بين الدول المصدّرة للطاقة النظيفة، خاصة في ظل التوجه العالمي نحو الحياد الصفري والانبعاثات الصفرية، وإذا استمرت المملكة في هذا النهج بخطى ثابتة، فإنها لا تكتفي بأن تكون نموذجًا عربيًا يحتذى به، بل مرشحًا قويًا لتكون من بين القادة العالميين في الاقتصاد الأخضر خلال العقد المقبل.