أخضر: بين وعود الحياد الكربوني وواقع الإسمنت.. أوروبا تفقد 600 ملعب كرة قدم من أراضيها يوميًا
First Bank
 
                                    
بينما تضع أوروبا نفسها في مقدمة الدول الساعية إلى تحقيق الحياد الكربوني وقيادة التحول نحو الاقتصاد الأخضر، تواجه القارة العجوز واحدة من أخطر التحولات البيئية في تاريخها الحديث، فبحسب تقرير أوروبي حديث، تفقد القارة يوميًا ما يعادل 600 ملعب كرة قدم من أراضيها الزراعية والطبيعية بين عامي 2018 و2023، أي أكثر من 9 آلاف كيلومتر مربع خلال 5 سنوات فقط "هذا المساحة تعادل تقريبًا دولة صغيرة تختفي تحت الإسمنت والزجاج".
ولا يقتصر تأثير هذا الزحف العمراني على المشهد البيئي فحسب، بل يمتد إلى عمق السياسات المناخية الأوروبية، إذ يقوض جهود الحد من الانبعاثات ويضعف قدرة القارة على مواجهة التغيرات المناخية والجفاف وارتفاع أسعار الغذاء، فالأراضي المفقودة لم تكن هامشية أو غير مستغلة، بل كانت غابات ومناطق زراعية تمثل خزانات طبيعية للكربون ومصدرًا رئيسيًا للغذاء، ما يجعل فقدانها بمثابة ضربة مزدوجة للتنوع البيولوجي والأمن الغذائي معًا.
وقد أوضحت البيانات أن السبب الرئيسي لهذا النزيف ليس النمو السكاني الطبيعي أو الحاجة الماسة للبنية التحتية، وإنما التوسع في مشروعات البناء الفاخر والمنتجعات السكنية واسعة النطاق؛ ففي ألمانيا مثلًا، تزايد الزحف العمراني على حساب الأراضي الزراعية خاصة في محيط المدن الكبرى مثل برلين وميونيخ، بينما شهدت إسبانيا والبرتغال توسعًا ملحوظًا في المنتجعات السياحية والمشروعات العقارية على حساب السواحل والأراضي الطبيعية.
فبالنظر إلى فرنسا، شهدت الضواحي المحيطة بباريس توسعًا ملحوظًا في البناء الفاخر الذي استبدل الحقول والغابات بالإسمنت والزجاج، وهذه التحولات تهدد التنوع البيولوجي في القارة وتقلل من قدرتها على إنتاج الغذاء محليًا، مما يزيد اعتمادها على الاستيراد في وقت يشهد العالم أزمات متكررة في سلاسل الإمداد الغذائية.
وتكمن الخطورة في أن فقدان الأراضي الطبيعية لا يعني فقط خسارة مناظر خضراء، بل يعني فقدان واحدة من أهم أدوات امتصاص الكربون؛ الغابات والأراضي الزراعية، والتي تحتفظ بكميات ضخمة من ثاني أكسيد الكربون، ومع اختفائها تتزايد نسب الانبعاثات في الغلاف الجوي، ما يضاعف أزمة المناخ.
وتشير تقديرات خبراء الاتحاد الأوروبي إلى أن هذا المسار سيؤدي إلى ارتفاع أسعار الغذاء في السوق الأوروبية خلال السنوات المقبلة، بجانب زيادة مخاطر الجفاف والتصحر، وارتفاع تكاليف التكيف مع التغيرات المناخية مما يؤثر على اقتصاد القارة بشكل كبير.
والمفارقة هنا أن هذه التطورات تأتي في وقت تضع فيه أوروبا نفسها في مقدمة الدول التي تقود التحول نحو الاقتصاد الأخضر عبر الصفقة الخضراء الأوروبية وخطط الوصول إلى الحياد الكربوني بحلول عام 2050.
فعلى الرغم من تبني الاتحاد الأوروبي حزمة "Fit for 55" الهادفة إلى خفض الانبعاثات بنسبة 55% بحلول عام 2030، فإن استمرار فقدان الأراضي الطبيعية يقوض هذه الجهود من أساسها، مما يضع الحكومات الأوروبية أمام معضلة حقيقية بين وعودها المناخية وضغوط قطاع العقارات.
كما يحذر خبراء البيئة من أن غياب التنسيق بين السلطات المحلية والمطورين العقاريين يسهم في تسارع هذا الزحف العمراني غير المنضبط، في ظل ضعف تطبيق التشريعات التي تجرم البناء على الأراضي الزراعية.
ويرى الخبراء أن الحل يكمن في تشريعات أكثر صرامة تفرض قيودًا واضحة على البناء في الأراضي الزراعية والطبيعية، وزيادة الاستثمارات في إعادة التشجير والحفاظ على الغابات، بجانب دعم المشروعات التي تعيد استخدام الأراضي بشكل مستدام بدلًا من استنزافها.
كما يشيرون إلى أن وعي المجتمعات المحلية يمثل ركيزة أساسية في مواجهة هذه الأزمة، فالتغيير لا يتحقق عبر القوانين فقط بل عبر إدراك المواطنين لخطورة فقدان الأراضي على مستقبلهم الغذائي والمناخي.
وتشير بعض المبادرات البيئية، مثل برنامج “Rewilding Europe” ومشروعات التشجير في ألمانيا والسويد، إلى أن القارة لا تزال تمتلك أدوات يمكنها من خلالها استعادة جزء من التوازن البيئي المفقود، إذا ما توافرت الإرادة السياسية الكافية.
ولذلك فان القضية لم تعد تخص الحفاظ على المساحات الخضراء كرمز للجمال الطبيعي، بل أصبحت مرتبطة بشكل مباشر بالأمن الغذائي والمناخي والاقتصادي العالمي، فيما أصبح الحفاظ على الأراضي الطبيعية ضرورة لا تحتمل التأجيل، وإلا فإن ثمن الإهمال سيدفعه الجميع، متقدمين ونامين، في صورة أزمات غذائية وبيئية متفاقمة.
وفي الختام، هذا الأمر لا يتوقف عند حدود أوروبا، بل يحمل رسالة إنذار إلى بقية العالم، فإذا كانت قارة متقدمة تمتلك إمكانيات مالية وتقنية ضخمة تخسر أراضيها بهذه السرعة، فما الذي يمكن أن يحدث في الدول النامية التي تعاني بالفعل من ضغوط الجفاف والتصحر ونقص الموارد؟
 
                                    
 
                         
                         
                        





 
                        





 
                         
                                         
                                         
                                         
                                         
                                         
                                         
                                         
                                         
                                         
                                         
                                         
                                         
                                         
                                         
                                         
                                         
                                         
                                         
                                        